المثقفون العرب بين الدولة والأصوليّة .. معركة من أجل الهيمنة على الثقافة

خلال القرنين الماضيين، ظل العلماء يرتابون باستمرار من الأشكال العصرية للتعبير الثقافي، دافعهم إلى ذلك خوفهم من أن تسمح هذه الأشكال للناس بإدراك حياتهم والعالم من خلال آليات منفلتة من الدين. لكن، ورغم احتجاجاتهم غير المجدية، فإن أغلبية الممارسات الفنية والثقافية كانت تحظى بالقبول. وفي الحقيقة، فبعض الإنتاجات (الفن المعاصر على سبيل المثال)، كانت تحمل بصمة الغرب ولا تهم سوى “الأفندية” (البورجوازيون المستغربون). كان هذا التسامح الحذر يندرج في إطار فكر ديني (الكلام) لا يختزل الدين في سياقه في مجرد الشريعة، بل يحتضن أيضاً نوعا من التعددية. لقد كانت عدة ممارسات أدبية وفنية دنيوية إلى هذا الحد أو ذاك (الشعر، الخط، الفنون التشكيلية، الموسيقى) تعتبر موافقة للدين، حتى وهي تزعزع المواضعات. وتشكل أعمال تتسم بتنوع رائع وإبداعية جد جريئة، جزءا لا يتجزأ من تاريخنا. كانت عظمة الإسلام تتمثل بالضبط في قدرته على استيعاب عدد لا يحصى من التأثيرات الثقافية. وكان العالم الإسلامي يحمي، يدرس ويطور التقاليد الكبرى للأدب والفلسفة الكلاسيكيين. وبدل إحراق الكتب، كان (هذا العالم) حضنا لتشييد المكتبات للحفاظ عليها. كما ظل، على امتداد مدة طويلة، ملاذا للوثائق المؤسِسة لما سيُسمى لاحقا الغرب. لقد استوعب العالم الإسلامي كون هذا الإرث يجسد التراث الفكري للإنسانية جمعاء.
ومع بزوغ الحركات الأصولية، رأى معيار جديد النور، معيار يوسم عادة بـ “السلفي”، تعتمد مرجعية تسميته على الرؤية الضيقة للأرثوذكسية الدينية التي يقوم عليها. إن كون هذا المعيار إيديولوجية مضمرة، ذلك أنه نادرا ما يتم التنصيص عليه في القوانين أو من طرف الإدارة، معطى لا ينقص إطلاقاً من نفوذه، بل العكس هو الصحيح. هذا المعيار لا يمتح سطوته من السلطة السياسية، بل من المكانة المحورية التي أصبحت القراءة المتشددة للإسلام تحتلها في رحم الهوية العربية: وهو يجسد المقاومة ضد الاستغراب والاستعمار الجديد.

Share